كريمة الصقلي تغني تحية لـ«الهرم» وديع الصافي في «قصر اليونيسكو»




بحضور نخبة من الشعراء والفنانين جاءوا يبحثون عن الطرب الأصيل


بيروت: سوسن الأبطح
من فاته الحفل الاستثنائي للبديعة كريمة الصقلي في «مهرجانات بيت الدين» عام 2008، لا بد أنه انتهز الفرصة أول أمس ليعوض خسارته، ما دامت الفنانة المغربية تعود إلى لبنان للمرة الثانية.
فقد امتلأت صالة «قصر اليونيسكو» في العاصمة اللبنانية، بمحبي الطرب الأصيل الذين كان لافتا أنهم من أجيال مختلفة، وضمت إضافة إلى الجمهور العريض شعراء ومثقفين وفنانين. وجاء وديع الصافي ليتقدم الصفوف، رغم سنواته التسعين والمرض الذي يبدو أنه نال من نشاطه، ليستمع إلى ملكة الطرب المحملة بعبق الموسيقى الأندلسية.

وإن كانت الصقلي قد جاءت إلى لبنان سابقا لتكريم أسمهان، فإنها حرصت هذه المرة على تلوين حفلها بمروحة من الأغنيات تعود إلى ذاك الزمن الجميل الذي كان فيه الحب الرومانسي محرك الأخيلة والأفئدة.

بدأت كريمة حفلها بأغنيتين شهيرتين لأسمهان «يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرى لي»، ومن ثم «فرق ما بينا الزمان» التي لحنها لها محمد القصبجي، لتتلوها بـ«آمنت بالله» من ألحان فريد غصن التي كانت قد غنتها لور دكاش.

وحيت الصقلي من سمته بالهرم وديع الصافي، وجمهورها فردا فردا، ووجهت تحية صادقة من المغرب إلى لبنان، شاكرة الفرقة الموسيقية الشابة التي رافقتها بقيادة عازف القانون غسان سحاب مع عشرة من الموسيقيين، بينهم عفف مرهج على العود، وعلي حسن، إضافة إلى وائل سمعان ومحمد البرفت على الكمان. وهناك أيضا بشار فران على آلة الكونترباص، وسلمان بعلبكي على الإيقاع. فرقة صغيرة ويانعة، آتية من الكونسرفتوار الوطني اللبناني، أدت كما كان يتمنى حضور متشوق للطرب والعزف المتقن.

أغنية «أنا والعذاب وهواك» لمحمد عبد الوهاب ألهبت قلوب السميعة الذين تمايلوا وتراقصت أذرعهم وهي تتلوى طربا. كبار السن وجدوا ضالتهم في هذا الحفل، وكأنهم يعودون عقودا إلى الوراء. لم يتمالك أحدهم نفسه وصرخ «آه يا ست كريمة» كما كان يقول الجمهور لأم كلثوم حين تشتد النشوة ويتسلطن.

كريمة الصقلي بالمساحات الصوتية العريضة التي تمتلكها، وبقدرتها اللدنة على التنغيم، جعلت الحاضرين يرددون معها طوال الوقت. البعض يحفظ كل هذه الأغنيات القديمة عن ظهر القلب. يبدو أن المطربات الجديدات لم يتمكن من قتل الحس الطربي الأصيل عند الناس، أو تشويهه بالقدر الكافي.

من ألبومها الخاص «وصلة» غنت الصقلي «حبينا.. حبينا»، وهي ثمرة تعاونها مع التونسي الموهوب لطفي بوشناق، لتعود وتشدو «القلب واللا العين» من ألحان محمود الشريف. غسان سحاب بوصلته المنفردة على القانون كان ممتعا حقا. هذه الأغنية التي تطرح سؤالا حول أيهما السبب في الحب «القلب واللا العين» جعلت الناس يحاولون الإجابة مع ميل جلي إلى العين. يقول البعض إن كريمة الصقلي هي أحد أهم المطربين الحاليين الذين بمقدورهم القيام بمهمة النهضة العربية الموسيقية في القرن الحادي والعشرين، لما لها من خامة صوتية نادرة، وللمرونة الاستثنائية في الحنجرة التي تتمتع بها. لكن ربما أن أهم الصفات على الإطلاق التي لهذه الفنانة هي التواضع الجم، وهو ما يجعلها باحثة باستمرار عن تمرين وتليين وتطويع صوتها. فهي تؤدي أغنيات أسمهان بشكل أساسي، لكنها تمنح هذه الأغنيات نفحها الخاص. يعتقد البعض أن الصقلي تختبئ وراء كبار الموسيقى والطرب في النصف الأول من القرن العشرين، لكنها في الحقيقة تستعيدهم بنكهتها الخاصة، وبحداثة تستحق التوقف عندها. وهي إذ تحيي هؤلاء الكبار، وتقبل أن تحتفظ لأغنياتها الخاصة بجانب ضئيل جدا فقط، من حفلاتها، فإنما هي تقوم بمهمة فائقة الأهمية بات يتطوع لها بعض مطربي المغرب تحديدا، وهي استنهاض الغناء الكلاسيكي العربي، باستعادة جواهره الثمينة وتقديمها طازجة للجمهور العربي.

فقد غنت الصقلي في حفل «قصر اليونيسكو» لفريد الأطرش «رجعتلك يا حبيبي» ولزكريا أحمد «حبيبي يسعد أوقاته»، لتنهي حفلها بدرة الربرتوار الأسمهاني «ليالي الأنس في فيينا»، وكنا نتمنى لو أنها أدت أغنية أسمهان «العصافير» التي تبرز روعة هذه الفنانة ومهارتها الفائقة في الأداء الأوبرالي، وهو ما كان كفيلا بإبهار الحاضرين.

وتحت إلحاح جمهورها الذي استزادها، حضر سيد درويش بتلك الأغنية التي صارت جزءا من الغناء الشعبي العربي لكل الأجيال «زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة». غنت الصالة كلها مع كريمة، وصفقت، فبفضل فيروز التي كثيرا ما رددت هذه الأغنية في ختام حفلاتها التي تحييها خارج لبنان، صارت الأغنية على كل شفة ولسان.

أثبتت كريمة الصقلي لمرة جديدة كم هي موهوبة ودمثة وذات حضور محبب على المسرح. لم تنس أحدا، لا الشعراء الذين حضروا وبينهم جورج شكور، ولا الفنانين اللبنانيين، وتوقفت لتوجه رسالة محبة إلى الفنانة صباح التي تكرم يوم الجمعة المقبل في بيت الدين قائلة «إن الجميع يحبها، وإنها غنت في مختلف أقطار العالم، وإنها في المغرب خصت المغاربة بأغنية بلهجتهم». وفي لفتة تدل على وفاء ولياقة شديدين من قبل الصقلي، أدت أغنية صباح باللهجة المغربية «ما أنا إلا بشر» للموسيقار عبد الوهاب الدوكالي، من دون أي مصاحبة موسيقية، ليرن صوتها في القاعة تنغيما وترنيما. وبالطبع لم تنس الصقلي الرحابنة وهي تغني في بلدهم، لتكون «بعتلك يا حبيب الروح» لزياد الرحباني، لفتة محبة أخرى من الصقلي لكل اللبنانيين.