التأصيل الموسيقي ونهضة المجتمع

التأصيل الموسيقي ونهضة المجتمع




التأصيل الموسيقي ونهضة المجتمع
يحتفل الموسيقيون هذه الأيام باليوبيل الفضي لمهرجان ومؤتمر الموسيقى العربية في دورته 25 بدار الأوبرا بمصر المحروسة، يشاركهم في بهجتهم كل الذائقة العربية التي لما يختف من وجدانها ألق النغم والإيقاع العربي الأصيل، الذين تسارعوا لحجز مقاعدهم، عرفانا بقيمة الكلمة واللحن، وإيمانا بأصالة المغنى وأهميته في صناعة وجداننا الفردي والجمعي أيضا.

بزغت فكرة تأسيس مهرجان الموسيقى العربية في العام 1992م جراء تكريم دار الأوبرا المصرية (المركز الثقافي القومي) لفرقة الموسيقى العربية التي تأسست في العام 1968م، ودعت بعض الفرق الموسيقية العربية للمشاركة في التكريم، فكان ذلك بمثابة النواة الأولى لنشأة مهرجان الموسيقى العربية، الذي بدأت ملامحه تتشكل تدريجيا، حيث أضيف في العام الذي يليه مسابقة فنية للمواهب الشابة في العزف على آلة العود، ثم تم تدويل المسابقة في كل عام على آلة عربية كالقانون والناي والكمان الشرقي، التي تمثل عصب التخت الشرقي، وهو ما كان له الدور الأكبر في تسليط الضوء مجددا على هذا النمط الأصيل من القوالب الموسيقية العربية في نفوس مختلف الأجيال الشابة.

في احتفالات هذا العام برزت العديد من الأصوات المذهلة، التي ألهبت أحاسيس الجمهور بجودة أدائها، وعذوبة صوتها، ومتانة لحنها، وكان من أولئك الفنانة المغربية الباسقة كريمة الصقلي، تلك التي صدحت بأعذب الألحان لأفضل الشعراء، فغنت من التراث الأندلسي «ياليل طل» بلحن عبدالقادر الجزائري، وشدت لبيرم التونسي «الورد جميل» بلحن الموسيقار الشيخ زكريا أحمد، وتجلت في سماء ليلتها بقصيدة «زدني بفرط الحب» لسلطان العاشقين ابن الفارض، وبلحن رشيد زروال، وبقصيدة «عليك صلاة الله وسلامه» لبديع خيري، وبلحن الموسيقار فريد الأطرش، فأطربت وسمت بكل الأنفس التي تمايلت أرواحها بكل سكينة وهدوء، حتى بعد أن غادرت الأنفس مكانها، إذ ما أجمل تلك الوجوه الوضيئة الوادعة وهي تغادر مقاعدها بابتسامة مكتنزة بكل الفرح والسرور.

تخيلت في تلك اللحظة لو أن هذا السمت الطربي كان هو السائد في أروقة مجتمعنا اليوم، هل كان حالنا سيتغير؟ حتما أجيب بنعم. ذلك أن جمال الموسيقى وعذوبتها ستنعكس إيجابا في أعماق نفوسنا، فتستكين لها أرواحنا كما تستكين لتغريد العصافير، وخرير الماء، في الوقت الذي تضجُّ فيه أذهاننا وأبداننا من ذلك الضجيج والعويل الذي يظنه البعض فنا، ويتصورونه موسيقى، وهو أشبه ما يكون بأنكر الأصوات وأشدها بؤسا لمن تدبر وتفكر؛ والأخطر أن انعكاساته السلبية وضحت على كثير من سلوكياتنا الحادة، ونهج حديثنا الصاخب، ونمط تفكيرنا المشوش. فكيف ينهض مجتمع هذه صفاته، وتلك ملامح أخلاقه؟ أليس التأصيل الموسيقي هو أحد أبرز مقومات النهضة المجتمعية المنشودة؟ بل أليس التأصيل الموسيقي هو عمود ارتكاز مقومات هويتنا الوطنية والقومية؟ ثم ألم يئن الأوان لإنشاء معاهد متخصصة للفنون والموسيقى، وتأسيس عديد من المسارح الوطنية في مختلف المدن بالمملكة؟ تساؤل أطرحه أمام الجهات الثقافية المعنية، فلعل وعسى.


د. زيد علي الفضيل